فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن كثير: انفرد به البخاري- أي: عن مسلم- ورواه الإمام أحمد. وهكذا روى الشعبي، والضحاك، وعلي بن أبي طلحة، والعوفي، ويوسف بن مِهْرَان، وغير واحد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، مثله. وبه قال مجاهد، وعكرمة وقتادة، والسدي، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوني في نفسي، لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم». وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرًا، إلا أن تودوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته». وهكذا روي عن قتادة، والحسن البصري مثله.
وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار، فإسناده ضعيف. على أن السورة مكية. وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة. وكذا ما رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: «فاطمة وولدها- رضي الله عنهم-» فإن في إسناده مبهمًا لا يعرف، عن شيخ شيعي، وهو حسين الأشقر، فلا يقبل خبره في هذا المحل، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد. فإنها مكية. ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية. فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر السنة الثانية من الهجرة.
والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه عنه البخاري. ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم، وإكرامهم. فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرًا، وحسبًا، ونسبًا. ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية. كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين، وقد ثبت في (الصحيح) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي. وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض». وروى الإمام أحمد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشًا إذا لقي بعضهم بعضًا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا، لقونا بوجوه لا نعرفها. قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا وقال: «والذي نفسي بيده! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله». هذا ملخص ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى، وسبقه في الإيساع في ذلك تقي الدين ابن تيمية في (منهاج السنة) من أوجه عديدة.
قال في الوجه الثالث: إن هذه الآية في سورة الشورى. وهي مكية باتفاق أهل السنة. بل جميع آل حم مكيات. وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليًّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر. والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة. والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة. فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.
ثم قال: الوجه الرابع- إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت، بعد علي، يقول: ليس معناها مودة ذوي القربى. ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب، ويا معشر قريش عليه أجرًا، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم. فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولًا، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه.
الوجه الخامس- أنه قال: {لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقربَى} لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقربَى} [الأنفال: 41]، وقال: {مَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقربَى} [الحشر: 7]، وكذلك قوله: {وَآتِ ذَا الْقربَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26]، وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقربَى} [البقرة: 177]، وهكذا في غير موضع. فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم، وذوي قربى الْإِنْسَاْن، إنما قيل فيها: ذوي القربى. لم يقل: في القربى. فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم، دل على أنه لم يرد ذوي القربى.
الوجه السادس- أنه لو أريد المودة لهم لقال: المودة لذوي القربى، ولم يقل في القربى، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره: أسألك المودة في فلان، ولا في قربى فلان. ولكن أسألك المودة لفلان، والمحبة لفلان. فلما قال المودة في القربى، علم أنه ليس المراد لذوي القربى.
الوجه السابع- أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرًا البتة. بل أجره على الله كما قال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40] و[القلم: 46] وقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47]، ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57]، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم. بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات. وفي (الصحيح) عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال «أذكركم الله في أهل بيتي» وفي (السنن) عنه أنه قال «والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي» فمن جعل محبة أهل بيته أجرًا له يوفيه إياه، فقد أخطأ خطًا عظيمًا. ولو كان أجرًا له لم نُثَب عليه نحن؛ لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة. فهل يقول مسلم مثل هذا؟.
الوجه الثامن- إن القربى معرفة باللام. فلا بد أن يكون معروفًا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرٍ} وقد ذكر أنها لما نزلت، لم يكن قد خلق الحسن والحسين، ولا تزوج علي بفاطمة. فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها، يمتنع أن تكون هذه. بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم، كما تقول: لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا. وكما تقول: لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم. ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر. انتهى.
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي: يكتسب طاعة: {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًَا} أي: بمضاعفته: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} أي: لمن تاب وأناب: {شَكُورٌ} لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته.
{أَمْ يَقولونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: بدعوى النبوة والوحي: {فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} قال ابن كثير: أي: لو افتريت عليه كذبًا كما يزعم هؤلاء الجاهلون، يختم على قلبك، أي: يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن. كقوله جل جلاله: {وَلَوْ تَقول عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47]، أي: لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. انتهى.
وهذا تفسير بالأشباه، والنظائر من الآيات، يؤثره كثير من الأئمة، ما وجد إليه سبيلًا. فإن التنزيل يفسر بعضه بعضًا، ومآل الآية على هذا المعنى، كما أوضحه أبو السعود، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى، لمنعه من ذلك قطعًا، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه. وحيث لم يكن الأمر كذلك. بل تواتر الوحي حينًا فحينًا، تبين أنه من عند الله تعالى.
وقال الزمخشري: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب؛ فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله، إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وإنه في البعد مثل الشرك بالله، والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم. ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول: لعل الله خذلني. لعل الله أعمى قلبي. وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه رُكب من تخوينه أمر عظيم. انتهى.
قال الشهاب: فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم. فهو تسلية له صلوات الله عليه، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه، فاستحق غضب ربه، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر؛ ولذا أتى بأن، في موضع لو، إرخاء للعنان، وتلميحًا للبرهان. على أنه لا يتصور وصفه بما ذكروه. فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه، وحاصله أنهم، اجترؤوا على هذا المحال؛ لأنه مطبوعون على الضلال. انتهى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لو كان مفترى لمحقه؛ إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه.
فليس: يمح، مجزومًا بالعطف على الجزاء، بل معطوف على مجموع الجملة، والكلام السابق، ولذا أعيد لفظ الجلالة، ورفع يحق. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن، وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} أي: يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته، من بعد كفره: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أي: معاصيه التي تاب منها: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي: من خير، أو شر، وهو مجازيكم عليه.
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: يستجيب لهم. فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3]، أي: يثيبهم على طاعتهم: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} أي: على ثوابهم، منةً منه وطولًا: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. اهـ.

.قال سيد قطب:

{حم (1) عسق (2)}.
سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية. وهي تذكر هنا في مطلع السورة، ويليها قوله تعالى: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم}..
أي مثل ذلك، وعلى هذا النسق، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك. فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها.
ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي. وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم. والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان. والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان: {إليك وإلى الذين من قبلك}..
إنها قصة بعيدة البداية، ضاربة في أطواء الزمان. وسلسلة كثيرة الحلقات، متشابكة الحلقات. ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع.
وهذه الحقيقة على هذا النحو حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته، ووحدة مصدره وطريقه. وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي: {الله العزيز الحكيم}.. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن؛ وتتصل كلها بالله في النهاية. فيلتقون فيه جميعا. وهو {العزيز} القوي القادر {الحكيم} الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير. فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله؛ ولا يعرف لها مصدر، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟
ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا؛ فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض، وأنه وحده العلي العظيم:
{له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم}.
وكثيرًا ما يُخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئًا، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم، مسخرة لهم، ينتفعون بها، ويستخدمونها فيما يشاءون. ولكن هذا ليس ملكًا حقيقيًا. إنما الملك الحقيقي لله؛ الذي يوجد ويعدم، ويحيي ويميت؛ ويملك أن يعطي البشر ما يشاء، ويحرمهم ما يشاء؛ وأن يذهب بما في أيديهم من شيء، وأن يضع في أيديهم بدلًا مما أذهب.. الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء، ويصرفها وفق الناموس المختار، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس. وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء لله بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه..
{وهو العلي العظيم}.. فليس هو الملك فحسب، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك. العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول؛ والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة!
ومتى استقرت هذه الحقيقة استقرارًا صادقًا في الضمائر، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب. فكل ما في السماوات وما في الأرض لله. والمالك هو الذي بيده العطاء. ثم إنه هو {العلي العظيم} الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال؛ كما لو مدها للمخاليق، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء.
ثم يعرض مظهرًا لخلوص الملكية لله في الكون، وللعلو والعظمة كذلك. يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها. كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم:
{تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم}..
والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير. وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس. في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا نحن البشر أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين من السنوات الضوئية. أي المحسوبة بسرعة الضوء، التي تبلغ 168. 000 ميل في الثانية!
هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن.. من خشية الله وعظمته وعلوه، وإشفاقًا من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون، فيرتعش، وينتفض، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه!
{والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض}.
والملائكة أهل طاعة مطلقة، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة. ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم، لما يحسون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته. ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون؛ فيشفق الملائكة من غضب الله؛ ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير. ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا، كالذي جاء في سورة غافر: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} وفي هذه الحالة يبدو: كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض، حتى من الذين آمنوا، وكم يرتاعون لها، فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعارًا لعلوه وعظمته؛ واستهوالًا لأية معصية تقع في ملكه؛ واستدرارا لمغفرته ورحمته؛ وطمعًا فيهما: